مصر | المرصد | ثقافة وفنون
ففى حين تنطلق من السياسة الأزمات، والقطيعة، والتعقيدات التى تدفع ثمنها الشعوب، توفر الموسيقى والغناء أجواءً تصالحيةً، وتحضُّ على التلاقى، والتفاهم، وتقديم التنازلات، وهى تماماً حكاية الموسيقى السودانية ونظيرتِها المصرية، على الرغم من أنهما مختلفتان اختلافاً بيّناً، فالسودانية من خمسة مقامات، والمصرية تستخدم المقامات السباعية، وفيما يكثر نصف النغمة وربعها فى الموسيقى المصرية، فهما لا وجود لهما فى الموسيقى السودانية، لكن ذلك كله لم يمنع الغناء والموسيقى فى مصر والسودان من أن يكونا رُسل المحبة، وسفراء الأُخوة، فكلاهما ينبعان من الوادى الحنون، ويتغذيان بِرَوَاءِ النيل الخالد.
كانت السينما المصرية هى القناة الوحيدة للتنوير الغنائى والموسيقى فى السودان مطلع القرن العشرين، فى ظل محدودية انتشار الفونوغراف، إلا وسط العائلات الموسرة، وأصحاب المقاهى، ومن مشاهدة أفلام محمد عبد الوهاب، وفريد الأطرش، وأم كلثوم، تأثر أفراد الجيلين الأول والثانى من رواد الغناء السودانى: أحمد المصطفى، وعثمان حسين، وأحمد الجابرى، وغيرهم، وهو تأثرٌ أدّى أحياناً إلى تقليد منتجات غنائية مصرية بحذافيرها، فقد كانت «يحيا الحب» إحدى أشهر أغنيات خرطوم الثلاثينيات، تأسياً بفيلم عبد الوهاب الذى يحمل الاسم نفسه، واستمر ذلك حتى نهاية ستينيات القرن العشرين، حين ظهرت أغنية «فات الأوان» للشاعر محمد يوسف موسى، والفنان صلاح بن البدية، خلال الفترة نفسها التى ظهرت فيها أغنية أم كلثوم التى تحمل اسماً مشابهاً (فات الميعاد).
ومع أن الفن الغنائى السودانى حافظ على هويته الخماسية، وطابع كلماته العامية السودانية، النابع من الأخيلة والصور المحلية؛ إلا أن مصر أنشأت فى عام 1948 مؤسسة فريدة لتعميق الأُخوّة بين شعبى مصر والسودان، دون أن يكون للسياسة والسياسيين دخل فى تسييرها، سواء أكانت العلاقات المصرية – السودانية فى حالة شد أم جذب، أم فى تناغم وانسجام، تلك المؤسسة هى إذاعة «ركن السودان من القاهرة»، التى أضحت منذ العام 1983 «إذاعة وادى النيل من الخرطوم والقاهرة».
وقد تولى إنشاء هذه الإذاعة عدد من أعظم الإذاعيين المصريين والسودانيين، ونذكر منهم بوجه خاص الدكتور سيد المعتصم، وفؤاد عمر، وفاروق الجوهري، وثريا حشيش، وتوفيق البكري، وغيرهم، وتدرب فى هذه الإذاعة طالب جامعة الأزهر، الذى أضحى أحد أبكار الإذاعيين فى السودان، حتى تولى منصب وزير الإعلام خلال عدد من الأنظمة التى حكمت السودان: الأستاذ على محمد شمو.
كان ذلك الرعيل من الإذاعيين من الإخلاص والأمانة فى أداء عملهم إلى درجة أن أحدهم، وهو الأستاذ فؤاد عمر، نشر عدداً من المؤلفات عن مذكرات كبار شعراء ومطربى السودان، وقدم برنامجاً شهيراً بعنوان «حبابك عشرة يا زائر» حقق ذيوعاً غير مسبوق جنوب وادى النيل؛ إذ كان يستقبل القادمين من السودان فى مطار القاهرة، ليسجل انطباعاتهم، وتحياتهم لذويهم فى السودان، كما ابتكر فكرة برنامج «ليالى السودان» الذى تخصّص فى تسجيل حفلات مطربى السودان فى القاهرة والخرطوم، ما ترك ثروة نادرة من التسجيلات السودانية فى مكتبة إذاعة وادى النيل، التابعة حالياً لشبكة «صوت العرب».
كان فؤاد عمر وأبناء جيله يقومون بزيارات منتظمة للسودان، فيما يعرف فى العمل الإذاعى بـ Duty Tours، يقومون خلالها بإجراء مقابلات سياسية، واجتماعية، وفنية، واقتصادية، وبمرور العقود أضحت إذاعة «ركن السودان» (وادى النيل) مصدراً مهماً من مصادر التسجيلات الغنائية السودانية، بعد تسجيلات إذاعة أم درمان، وتسجيلات شركات الأسطوانات السودانية والمصرية، ووفرت بذلك مادة خصبة لم تحظ بنصيب من الدراسة بكل أسف، لا فى السودان ولا فى مصر.
وينقسم هذا المصدر المهم للتسجيلات السودانية إلى قسمين رئيسيين:
القسم الأول: تسجيلات أغنيات المطربين ومؤلَّفات الموسيقيين السودانيين التى تتم فى استديوهات إذاعة وادى النيل فى مبنى ماسبيرو العريق، ونادراً ما كانت تأتى فرص لمطربى السودان لزيارة مصر بصحبة فرقهم الموسيقية، وكان يتولى تدوين موسيقى الأغنيات السودانية الموسيقار المصرى الراحل نصر عبد المنصف، الذى كان قائداً للفرقة الموسيقية لإذاعة «ركن السودان» وكانت له علاقات حميمة مع كبار مطربى السودان، ومنهم إبراهيم الكاشف، وعبد العزيز محمد داود، ومحمد وردى، وأحمد المصطفى، وإبراهيم عوض، والموسيقار السودانى، برعى محمد دفع الله قائد فرقة موسيقى الإذاعة السودانية، الذى شاءت الأقدار أن ينتدب للعمل إدارياً فى سفارة السودان بالقاهرة خلال النصف الثانى من الخمسينيات، وكانت إحدى أخصب فترات حياته تلحيناً وتأليفاً للمقطوعات الموسيقية، وبما أن الموسيقار نصر عبدالمنصف، كان يقوم بتدوين الموسيقى الخماسية بطريقة تجعل تنفيذها سهلاً على أعضاء فرقة إذاعة ركن السودان المصريين، لذلك نشأ نمط (Genre)غنائى سودانى – مصرى هجين، يعزفه موسيقيون مصريون، وتشارك فيه جوقة من الرجال والنساء المصريين والمصريات، ويؤديه مطربون سودانيون، وينمُّ هذا الغناء عن سماحة نفوس المصريين والسودانيين، ما يجعله نموذجاً لا يُعلى عليه فى تقبل الآخر، وتحقيق التناغم الذى ظل ينشده سكان شمال الوادى وجنوبه منذ العهود الفرعونية والنوبية.
أما القسم الثانى فهو الغناء الذى كانت إذاعة ركن السودان تجمع المطربين السودانيين وفرقهم الموسيقية لتسجيله فى الاستوديو الصغير الخاص بها، داخل مقر السفارة المصرية، فى حى المَقْرَن بالخرطوم. وعلى الرغم من أن هذه التسجيلات مشابهة الى حد كبير لتسجيلات الأغنيات السودانية نفسها فى إذاعة أم درمان؛ فإن الطابع الصوتى لأستوديو إذاعة «ركن السودان» فى الخرطوم يمتاز بملامحه الخاصة به، وخاصيته الفريدة لمن يستمع لما يُنتج فيه.
كان ذلك كله يتم بسلاسة، وحرفية، ومحبة بغض النظر عن حالات المد والجزر التى ظلت تشهدها العلاقات السياسية المصرية ـ السودانية، وجاء تحويل مسمى «إذاعة ركن السودان» إلى «وادى النيل» فى عام 1983، فى سياق اندفاع حكومتى الرئيسين الراحلين السودانى جعفر نميرى، والمصرى أنور السادات لتحقيق التكامل بين البلدين، وعلى الرغم من حماسة نميرى والسادات للتكامل، الذى وصل طور إنشاء وزارتين فى البلدين لشئون التكامل بين مصر والسودان، وإنشاء برلمان وادى النيل؛ إلا أن تقلبات السياسة فى شطرى الوادى، جعلت التكامل حلماً ينتظر إلى ما لا نهاية من يستطيع تحقيقه من زعماء البلدين.
بدأت الصلة بين غناء شطرى وادى النيل فى أربعينيات القرن الماضى، حينما التحق الموسيقار السودانى إسماعيل عبد المعين بمعهد الموسيقى العربية فى القاهرة، وما لبث أن انضم إليه الفنان السودانى الكبير سيد خليفة، الذى أرسله ذووه إلى القاهرة فى عام 1948 للالتحاق بالأزهر الشريف، لكنه عثر على منحة من التاج المصرى للالتحاق بكونسرفاتوار القاهرة، وكان من أبرز زملائه فى المعهد العندليب الأسمر عبد الحليم حافظ، وأحمد فؤاد حسن، ومحمود عفت، وغيرهم من ذلك الرعيل من صناع نهضة الموسيقى المصرية، التى قادت إلى العصر الذهبى للغناء المصرى.
انطلق الفنان سيد خليفة من الحفلات السودانية والمصرية فى القاهرة والويس والإسكندرية، وسمع السودانيون صوته من إذاعة «ركن السودان» قبل عودته للسودان فى عام 1955، ليصبح أحد أكبر مطربى السودان حتى وفاته فى عام 2002. وحظى الموسيقار إسماعيل عبد المعين بعد إكماله الدراسة الموسيقية فى مصر ببعثة من الملك فاروق للدراسة فى العاصمة الفرنسية فى باريس، حتى عودته للسودان فى عام 1960، حيث أنشأ فصلاً لدراسة الموسيقى فى الإذاعة السودانية.
وكان نقيب الفنانين السودانيين أحمد المصطفى، يحرص على زيارة الموسيقار محمد عبد الوهاب كلما حلّ بالقاهرة، كيف لا وهو يعتبر عبد الوهاب مثله الأعلى فى الموسيقى والغناء؟ كما كان تأثر الموسيقار الملحن السودانى بشير عباس بالفنان فريد الأطرش، خصوصاً فى العزف على العود، كبيراً جداً.
وفى عام 1970، زار فنان السودان الكبير محمد وردى (1932-2012) القاهرة والإسكندرية، وكلف الموسيقار المصرى يونانى الأصل أندريه رايدر بتوزيع موسيقى أغنية «الود» التى تعتبر إحدى أبرز أغنياته، وكان بثها على أثير الإذاعة السودانية فى عام 1970 حدثاً غير مسبوق، ولا تزال هذه الأغنية، التى نظمها الشاعر السودانى عمر الطيب الدوش، تمثل معلماً بارزاً فى مسيرة الأغنية السودانية الحديثة، وشاهداً فى التعاون بين الموسيقيين فى شمال الوادى وجنوبه.
وجاء ذلك التعاون الفنى بين البلدين تتويجاً لمسيرة طويلة بدأتها شركات إنتاج الأسطوانات المصرية منذ العام 1927، وهو تاريخ إنتاج أول أسطوانة سودانية فى القاهرة، وشاركت فى هذا الإنتاج شركات ميشيان، وبيضافون، وأوديون، وكولومبيا، واستمر ذلك حتى بعد انتهاء مرحلة الأسطوانات الحجرية القديمة، ودخول شركة صوت القاهرة للصوتيات والمرئيات بقوة فى هذا المجال، إلى درجة أنها نجحت فى استقطاب شركات الإنتاج الفنى السودانية التى كانت تتعاقد مع شركات يونانية ولبنانية لصنع أسطواناتها.
صناع الطرب
يعتبر الفنان السودانى أحمد المصطفى (1915-1999) الذى شغل منصب نقيب الفنانين السودانيين سنوات عدة، أحد أبرز صناع الطرب فى السودان، ونجح فى إقامة علاقات وطيدة مع رصفائه فى شمال الوادى، إذ صور فى القاهرة أحد أول المقاطع الغنائية السودانية المصورة فى أربعينيات القرن العشرين، كما شارك الفنانة صباح فى أداء أغنيته «رحماك يا ملاك» فى أحد الأفلام العربية.
وبالطبع فإن الفنان السودانى سيد خليفة قد يكون الأشهر سودانياً فى مصر والعالم العربى، بسبب انطلاقه فنياً من مصر، ولمشاركته السينمائية من خلال أغنيته الأشهر «المامبو السودانى» ومن مطربى السودان الذين حققوا شهرة واسعة الفنان إبراهيم عوض، الذى ينحدر من أسرة تنتمى إلى قبيلة الكنوز فى جنوب مصر، وقد شارك إبراهيم عوض بالظهور فى فيلم «إسماعيل يس طرزان» الذى عرض فى عام 1958 وقدم فيه أغنية «اظهر وبان» التى لحّنها الموسيقار السودانى برعى محمد دفع الله.
أما الفنان محمد وردى (1932-2012) فقد كان الأكبر شهرة من مطربى السودان فى مصر، إذ أن انتماءه إلى منطقة النوبة جعله الأكثر شعبية وسط النوبيين فى مصر، وقد أقام وردى بضع سنوات فى القاهرة خلال فترات خصامه مع الأنظمة العسكرية التى حكمت السودان، ويعده الفنانون النوبيون المصريون مثلهم الأعلى، كالفنان محمد منير، وعلى كوبان، وغيرهما.
ومن فنانى السودان الذين حصدوا شهرة واسعة الفنان عبد الكريم الكابلى، الذى يقيم حالياً بالولايات المتحدة،وكان من أكبر المعجبين بالرئيس الراحل جمال عبد الناصر، وقدّم أكثر من ثلاث أغنيات تتغنى بعظمة عبد الناصر، كما قدم أغنية لوحدة وادى النيل بعنوان «أخى إنا سنحيا» لحنها الموسيقار المصرى الراحل على إسماعيل.
شعراء الحداثة
لا يمكن الفصل بين مسيرة الشعر الحديث والغناء المعاصر فى السودان، وشاءت الأقدار أن ينطلق شعراء الحداثة السودانيون من مصر، خصوصاً محمد الفيتورى، وجيلى عبد الرحمن، والدكتور تاج السر الحسن، وعرفت أشعار الفيتورى وتاج السر الحسن طريقها إلى فن الغناءالسودانى، فأضحت جزءا لا يتجزأ من مقومات الأغنية السودانية الحديثة، وكان الفنان السودانى محمد وردى هو أكثر من تغنى بقصائد الفيتورى، خصوصاً إبان فترة عمل الفيتورى رئيساً لتحرير مجلة إذاعة «هنا أم درمان» مطلع ستينيات القرن العشرين، ومنها أنشودة «أصبح الصبح» التى أضحت حداء الثورة الشعبية العظيمة التى أطاحت بحكم الفريق إبراهيم باشا عبود فى عام 1964 ومنها أيضاً أنشودة «حنين».
إذاعة «وادى النيل»… ماضٍ زاهٍ وحاضرٌ قاتمٌ!
على الرغم من تاريخها العريق، ودورها الكبير فى تعميق العلاقة بين الشعبين المصرى والسودانى، منذ إنشائها فى عام 1948، فإن البيروقراطية الإدارية فى الإذاعتين المصرية والسودانية، أدت إلى تدنى مستوى أدائها، حتى أضحت تبث لفترة ست ساعات فقط يومياً، ولا أعرف هل يعزى ضعف برامجها حالياً، إلى غياب الرعيلين الأول والثانى من الإذاعيين المصريين العظماء الذين صنعوا مجدها، وزادوا شعبيتها، وعدد المستمعين إليها، أم أن ثمة خللاً فى الإستراتيجية التى تحكم كيفية قيام هذه الإذاعة بدورها تجاه شعبى البلدين؟ فقد أضحت يغلب على برامجها طابع القِصَر، وانعدام الهدف والمضمون.
وباستثناء مذيعات مقتدرات، منهن زينب العرب عبد الله، وزينب حسن، وتغريد سلامة، لفقدت هذه الإذاعة هويتها تماماً، فقد أضحت برامجها مكرّسة للراهن السياسى فى البلدين، وغاب تماماً التركيز على الجانبين الثقافى والترفيهي، اللذين يجب التعويل عليهما لاستقطاب محبة السودانيين للمصريين، خصوصاً بعدما نجح النظام الإخوانى السابق فى السودان، فى محاولة اقتلاع مؤسسات القوة الناعمة المصرية فى السودان، كجامعة القاهرة فرع الخرطوم، ومرافق البعثة التعليمية المصرية،وانتهى الأمر بإذاعة وادى النيل إلى غياب شبه تام للغناء السودانى، وتغييب تام لبرامج العهد الزاهى لـ «ركن السودان من القاهرة» فهل سيأتى يوم تتلاشى فيه هذه الإذاعة المصرية العريقة، أم سيهيأ لها من ينتشلها من وحدتها الحالية، لتكون فى خدمة مستمعيها فى شمال وادى النيل وجنوبه.